فصل: مسألة إذا أسلم أهل العنوة حكم أموالهم أخذ منهم دراهمهم ودنانيرهم وعبيدهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة إذا أسلم أهل العنوة حكم أموالهم أخذ منهم دراهمهم ودنانيرهم وعبيدهم:

من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: قال ابن القاسم: قال مالك: إذا أسلم أهل العنوة أخذ منهم دراهمهم ودنانيرهم وعبيدهم، وكل مالهم، فقلت لابن القاسم: فيجوز بيع رقيقهم؟ فقال لي: أراه جائزا من قبل أن أمرهم كأنهم إنما تركوا على ذلك وكأنهم أذن لهم في التجارة، فإنما يمنعوا من أن يهبوا أو يتصدقوا أو يفسدوا أموالهم، فقلت له: فتزويج بناتهم؟ فقال: ما أحبه، وإني لأتقيه، وما أراه حراما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن أهل العنوة إذا أسلموا لا يكون لهم مالهم، ويؤخذ منهم صحيح على أصله فيها أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة، وقال ابن حبيب: إذا أسلموا كان لهم مالهم، ولم ينتزع منهم لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من أسلم على شيء فهو له».
وهو الذي يأتي على ما مضى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من أنهم أحرار، وقد مضى القول على ذلك هنالك، وعلى قول ابن المواز في تفرقته بين ما كان بأيديهم يوم الفتح، وبين ما استفادوه بعد ذلك، ومضى في رسم الصلاة من سماع يحيى ما فيه بيان هذه المسألة.

.مسألة الروم إذا نزلوا للتجارة معهم رقيق مجوس:

وسألته عن الروم إذا نزلوا للتجارة معهم رقيق مجوس، فنزلوا على أن لنا العشر، ثم أرادوا الانصراف، قال: يقاسمون ويؤخذ منهم ما صار للمسلمين، وينقلبون بما بقي، قلت: فإن أسلم الرقيق كلهم، ثم أرادوا الرجوع بهم؟ قال: ذلك لهم بعد أن تؤخذ عشرهم، واحتج بمسألة الروم الذين أرسلوا إلى أمير المؤمنين، واحتج بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أبي جندل.
قال محمد بن رشد: هذا المعلوم المشهور من مذهب ابن القاسم، وحجته بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أبي جندل ليست ببينة؛ لأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إنما رد أبا جندل بالشرط الذي كان صالح عليه أهل مكة، ولا شرط للروم علينا في الرجوع بمن أسلم من رقيقهم، وقد ذكر ابن حبيب: أن قول ابن القاسم هذا لم يتابعه عليه أحد من أصحاب مالك، وقد مضى في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى ما هو خلاف لقول ابن القاسم هذا مثل ما ذهب إليه ابن حبيب، فقف على ذلك.

.مسألة أرض الصلح إذا صالحوا على ألف دينار يكون عليهم في كل عام:

قال: وسألت ابن القاسم عن أرض الصلح إذا صالحوا على ألف دينار يكون عليهم في كل عام أهو مثل أن يصالحوا على أن على جماجمهم دينارين وعلى الأرض مبذر كذا وكذا، وعلى كل زيتونة كذا وكذا أهو سواء؟ قال: نعم، هو كذلك عندي يجوز لهم بيعها، وإذا أسلموا عليها وضعت عنهم الجزية.
قال محمد بن رشد: ساوى ابن القاسم في هذه الرواية في جواز بيع أرض الصلح بين أن تكون الجزية مجملة عليهم أو مقصوصة على جماجمهم وعلى الأرض، أو على جماجمهم دون الأرض، وقد مضى ما في هذا من الاختلاف وتحصيل القول فيه في رسم الصلاة من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.

.مسألة الرهبان إذا كانوا في أرض الإسلام هل عليهم جزية:

من سماع عبد الملك بن الحسن من أشهب وابن وهب قال عبد الملك: سئل أشهب: عن الرهبان إذا كانوا في أرض الإسلام هل عليهم جزية كانوا في صوامع أو غيرها؟ فقال: كل شيء وقع عليه اسم الترهيب فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول سماع أشهب من كتاب الجهاد، فلا معنى لإعادته هنا، والله الموفق.

.مسألة عن الرجل تكون أمه نصرانية عمياء فتسأله المسير معها إلى الكنيسة:

وسئل عن الرجل تكون أمه نصرانية عمياء، فتسأله المسير معها إلى الكنيسة، هل ترى له سعة في المسير بها إلى الكنيسة؟ فقال: لا أرى بأسا أن يسير بها حتى يبلغها، ولا يدخلها الكنيسة فقيل له:
أفيعطيها نفقة لعبدها؟ قال: نعم يعطيها نفقة لطعامها وشرابها ولا يعطيها ما تعطي في كنيستها.
قال محمد بن رشد: رأى المسير معها إلى الكنيسة أحق من أن يعطيها ما تعطي فيها؛ لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها، وإعطاؤها ما تعطي في الكنيسة منفعة لها وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطى ذلك هو فيها، وفي المبسوطة لمالك: أنه لا يسوغ له أن يسير معها إلى الكنيسة، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك، وقد بين في رسم تسلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم وجه الاختلاف في ذلك.

.مسألة بيع رقيق اليهود من النصارى ورقيق النصارى من اليهود:

وسألت ابن وهب: عن بيع رقيق اليهود من النصارى، ورقيق النصارى من اليهود هل ترى ذلك واسعا؟ قال: لا ينبغي ذلك ولا يجوز، وسئل عنها سحنون فقال: ذلك مكروه، وإنما كره ذلك من ناحية العداوة التي بينهم.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في هذا السماع من كتاب جامع العيوب.
والعداوة هنا عنها هي ما أخبر الله به من قول بعضهم في بعض للتنافس الذي بينهم إذ هم جميعا أهل الكتاب فقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] يريد: كل طائفة منهما ليست لصاحبتها على شيء منذ دانت دينها وكفرت اليهود بعيسى والنصارى بموسى صلى الله عليهما، فكذب الله الطائفتين بقوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] يريد التوراة والإنجيل؛ لأن التوراة تصدق بعيسى والإنجيل يصدق بموسى كما أنهما جميعا يصدقان النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فإن وقع ذلك، ففي كتاب ابن سحنون عن أبيه: أنه يجبر على بيعه، وروى ذلك زياد عن مالك، ولا يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل في النصراني يشتري المسلم على ما مضى في رسم أوله يشتري الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم، وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك مخالف لما في سماع ابن القاسم والمدونة من إجازة بيع كبار المجوس من اليهود والنصارى؛ لأن الدينين مختلفان أيضا، وليس ذلك بصحيح، إذ لا تنافس بين المجوس وأهل الكتاب، إذ ليسوا بأهل كتاب، ولا جاء بعداوتهم نص كتاب الله تعالى.

.مسألة العبد النصراني يباع من أهل دينه من أهل الحرب:

من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيوع الثاني قال يحيى: وسئل ابن القاسم عن العبد النصراني يباع من أهل دينه من أهل الحرب، قال: لا أرى ذلك، أخاف أن يكون عورة على المسلمين، ودليلا على ذلك، ولولا ذلك لم أكرهه إذا ثبت على دينه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه كراهيته لذلك بيانا لا زيادة عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة نصراني دفع إلى نصراني طيرا صاده بأن يبيعه ويجعل ثمنه في الكنيسة:

ومن كتاب الجامع:
وسئل ابن القاسم عن نصراني دفع إلى نصراني طيرا صاده بأن يبيعه ويجعل ثمنه في الكنيسة، فمر به على مسلم فسأله فأخبره قصته، وما أمر به في ثمنه فأراد المسلم شراءه، قال: أرى ذلك خفيفا، قال أصبغ: لا يعجبني ولا أراه في سعة، وأراه في إثم وحرج، وأراه عونا على شرائع الكفر وتعظيم الكنائس وعمارتها، والذي يفعل هذا وشبهه مسلم سوء مريض الإيمان.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم محض القياس، وقول أصبغ نهاية الورع، وقد مضى في رسم تسلف من سماع ابن القاسم ما يدل على توجيه كل واحد من القولين.

.مسألة الديارات وما يباع منها إذا باعها أسقف الكنيسة في خراجها وفي مرمة الكنيسة:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم قال في الديارات: وما يباع منها إذا باعها أسقف الكنيسة في خراجها وفي مرمة الكنيسة، وإنها حبست تلك الأرض في صلاحها إنه لا يباع منها شيء ولا يجوز شراؤه لمسلم، ولا يجوز لهم في أحباسهم التي يحبسونها على وجه التقرب إلا ما يجوز للمسلمين في أحباسهم، قال أصبغ مثله في المسلم لا يشتريه على حال نحو التي فوقها، قال: ولا يحكم حكم المسلمين في منع بيعها ولا رده ولا الأمر به، ولا إنفاذ حبسها ولا جوازه ولا أرى أن يسعه ذلك.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية للرجل أن يشتري من أسقف أهل بلدة الصلح الديارات المحبسة على إصلاح الكنائس إذا باعها في مرمتها أو في خراجهم خلاف ما مضى من قوله في رسم النسمة من سماع عيسى، والوجه في ذلك أنه لو تنازع فيها الذي حبسها والأسقف، فأراد الذي حبسها أن لا تباع تلك الديارات بغير اختيار محبسها وتبقى موقوفة على ما حبسها عليه من أن تكون غلتها في إصلاح الكنيسة، وأراد الأسقف أن يبيعها في إصلاح الكنيسة أو فيما لزمهم من الخراج وتحاكموا في ذلك إلى حكم المسلمين ورضوا بحكمه لكان الواجب عليه إن اختار أن يحكم بينهم بحكم المسلمين الذي هو أن لا تباع الديارات بغير اختيار محبسها إذ لم يطلق ذلك فيها، وإنما أراد أن تكون موقوفة لا تباع، وهذا معنى قول ابن القاسم لا يجوز لهم في أحباسهم التي يحبسونها على وجه التقرب إلا ما يجوز للمسلمين في أحباسهم؛ لأن المحبس لها لو أراد أن يرجع فيما حبس على الكنيسة لما جاز ذلك له، ويمنعه من ذلك حاكم المسلمين، هذا ما لا يصح أن يكون، ابن القاسم أراده كما تأول أصبغ عليه؛ لأن التحبيس على الكنيسة معصية لله لا طاعة له، ولا يحل أن يحكم على من أوجب على نفسه معصية بتنفيذها، وإذا لم يكن للأسقف أن يحكم على المحبس ببيع ما حبس بغير اختياره لم يجز للمسلم أن يبتاع ذلك منه كما قال ابن القاسم لاسيما إن باع ذلك في مرمة الكنيسة لما في ذلك من العون لهم على عمارة كنائسهم، وإن كان ذلك عند ابن القاسم خفيفا على ما قاله في المسألة التي قبل هذه وقول هذه، وقول أصبغ في المسلم لا يشتريه على حال نحو التي فوقها يريد مسألة الطائر إنما يصح في الذي يبيع لمرمة الكنيسة لما في ذلك من تعظيم الكنائس وعمارتها، وأما الذي يبيع في الخراج فلا وجه لمنعه من ذلك على أصله في إنكار قول ابن القاسم ورد علته.

.مسألة العدو يداينون المسلمين إلى أن يرجعوا من قابل:

قال أصبغ: سمعت ابن وهب يقول في العدو يداينون المسلمين إلى أن يرجعوا من قابل، فيرجعون فيقولون: لا ننزل إلا على أن لا تعدوا علينا غرماءنا فقال: لا ينبغي للإمام أن ينزلهم على ذلك، قيل له: فإن أنزلهم على ذلك فقام الغرماء، فقال: أرى أن يعديهم القاضي على حقوقهم ويخير الآخرين، فإن أحبوا أن يبيعوا باعوا، وإن أحبوا أن يذهبوا ذهبوا، فإن ذهبوا لم يؤخذ منهم العشر حتى يبيعوا، فإذا باعوا أخذ منهم العشر، قال أصبغ: وإن رفعوا إلى غيرها من سواحل المسلمين فاشتروا تجارة لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الإمام إذا أنزلهم على أن لا يعدي عليهم بالحقوق التي عليهم لا ينفذ ذلك لهم، ويعدي عليهم بما عليهم من الحقوق صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنهم اشترطوا إسقاط ما قد أوجبوه على أنفسهم، وإنما اختلف إذا هربوا بالديون التي عليهم، ثم نزلوا على أن لا يعدي عليهم بها على ما قد ذكرناه من الاختلاف في ذلك في رسم زيد من سماع عيسى، فقف على ذلك، وأما قوله: إنه لا يؤخذ منهم العشر إلا أن يبيعوا فهو خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة، وكتاب ابن المواز في رسم أوصى من سماع عيسى مثل ما لأشهب في كتاب ابن المواز، وقول أصبغ: وإن رفعوا إلى غيرها من سواحل المسلمين فاشتروا تجارة لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ، يريد إلى غيرها من سواحل المسلمين في ذلك الأفق، ولو كان الساحل الذي رفعوا إليه في أفق آخر لوجب أن يؤخذ منهم فيه العشر إن اشتروا أو باعوا على مذهب ابن وهب، وعلى مذهب ابن القاسم باعوا أو لم يبيعوا وبالله التوفيق.

.مسألة ما يكون للحربي من مال عند مسلم من وديعة أو سلف أو بيع:

قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: كل ما يكون للحربي من مال عند مسلم من وديعة أو سلف أو بيع وحيث ما وجد له مال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ثم سبي بعد ذلك فهو فيء للمسلمين، وإن كان عليه دين فغرماؤه أحق به، وإن كان ما أوجف عليه الخيل والركاب، فالمسلمون أحق به من غرمائه وهو لهم فيء.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، ومضى القول فيها في رسم العتق من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.

.مسألة المسلم يشتري العبد المجوسي من المجوسي هل يجبره على الإسلام:

وسئل أصبغ: عن المسلم يشتري العبد المجوسي من المجوسي مثل المجوس الذين يكونون بالعراق بين ظهراني المسلمين قد ثبتوا على مجوسيتهم هم وعبيدهم فيبيع الرجل منهم العبد من المسلمين هل على المسلم أن يجبره على الإسلام؟ قال: لا ليس ذلك عليه إنما هذا فيمن يشتري المسلمون من السبي من الصقالبة وغيرهم من سبي المجوس، فأولئك الذين يجبرون على الإسلام.
قال محمد بن رشد: قوله في أهل الذمة من المجوس الذين قد ثبتوا على مجوسيتهم: إنه لا يجبر من اشترى من عبيدهم يريد الكفار على الإسلام صحيح؛ لأن المسبيين منهم إنما أجبروا على الإسلام من أجل أنهم لم يفقهوا دينهم، ولا عقلوه لما هم عليه من الجهل فكان لهم في ذلك حكم الصغار، ولم يفرق في هذه الرواية في المسبيين منهم بين الصغار والكبار في أنهم يجبرون على الإسلام، بل ظاهر قوله: أنه إنما تكلم على الكبار دون الصغار كما فعل في الذميين، فهو خلاف ما مضى في رسم الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم، والحمد لله، اللهم عونك يا معين.

.كتاب تضمين الصناع:

.يستعمل القلنسوة من الخياط فيبيعها الخياط فيأتي صاحبها فيريد إمضاء البيع:

من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل يستعمل القلنسوة من الخياط، فيبيعها الخياط، فيأتي صاحبها فيريد إمضاء البيع وأخذ الدراهم من الخياط وأخذ قلنسيته من الذي اشتراها إذا عرفها، قال: أما قبض الدراهم من صاحب القلانس، فلا أرى ذلك؛ لأنه كان ضامنا لها حتى يوفيه إياها، وأرى عليه مثلها بعملها له، ولو لم تفت القلنسوة عند مشتريها فشاء أن يأخذها أخذها، قال ابن القاسم: لا أرى مالكا أجاب فيها إلا أنها كانت مضمونة على الخياط بصفة، فأما أن تكون خرقته بعينها استعملها إياه، فله أن يأخذ الثمن الذي باعها به أو قيمتها إن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باع به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة على ما حملها عليه ابن القاسم وذهب إليه في تأويلها محمد بن المواز: أن القلنسية كانت مضمونة على الخياط، وأن الخياط لما أكملها على الصفة التي استعمل عليها أشهد أنها لفلان، ثم باعها، فلم ير مالك أن يجيز بيعها ويأخذ الدراهم التي أخذ الخياط فيها إذا كانت قد فاتت عند المشتري؛ لأنها إذا كانت قد فاتت عنده رجعت على أصلها مضمونة على الخياط، فخشي مالك من ذلك الذريعة إلى الحرام بأن يكون قد دفع دراهم فيأخذ أكثر منها، وأما إن كانت قائمة عند المشتري وعرف البيع، فله أن يجيزه ويأخذ الثمن، كما له أن يأخذها من أجل أنها قد تعينت له بإشهاد الخياط عليها قبل البيع أنها له، فلعله إنما باع ملك نفسه، فيخشى في ذلك الذريعة إلى الحرام بدفع دراهم في أكثر منها، فالمسألة آخذة بالطرفين من الضمان والتعين هي مضمونة عليه في الأصل، عليه خلافها إن غابت أو تلفت عنده أو عند المشتري ومتعينة في أنه ليس له أن يمسكها ويعطيه غيرها إلا برضاه، وفي أنها إن وجدت عند المشتري، كان أحق بها، وإن شاء أخذ ثمنها، ولو لم تكن مضمونة على الخياط بصفة، وإنما كان استعمله خرقة بعينها لكان مخيرا فهو إن وجدها أخذها؛ لأنها متاعه، وإن لم يجدها كان عليه مثلها، جعل القلنسوة من الأشياء التي يؤخذ مثلها لكثرتها.
قال في الجلد وهو على شاة استحييت: إن له قيمة ذلك أو شراؤه أي مثله، فلما كانت الجلود كثيرة، والمثل موجودة فيها جاز أن يعطى مثله وكره أن يأخذ الثمن في ذلك أو القيمة لئلا يصير بيعا وسلفا يعطى ثمنا وخرقة، ويأخذ ثمنا يقبح فلما قبح وجاءت الضرورة جاز أن يأخذ مثل القلنسية، ولو كانت إرادته ما قال ابن القاسم لما كان له على القلنسية المبيعة سبيل ولكان سلفا في قلنسية، ولما كان له نقض البيع فيها وأخذها لو لم يقع على خرقته فهو غير متبوع.
قال محمد بن رشد: والتأويل الذي ذكرناه على ما حمل ابن القاسم عليه المسألة من أن القلنسية مضمونة على الخياط، أو لأن قول ابن لبابة، إذ لو كانت خرقته بعينها استعمله إياها لم يكن في أخذه الثمن أو القيمة كراهة إذا علم البيع ولا دخله بيع وسلف لأخذه ثمن متاعه بعينه أو قيمته بعد ثبوت العداء عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة الصانع والصباغ تسرق بيوتهم:

ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة:
وسئل مالك: عن الصناع الصانع والصباغ تسرق بيوتهم فيأتي من له عنده شيء، فيقول الصباغ: هذا متاع فلان، وهذا ثوب فلان، وزعم أن الآخرين سرقت ثيابهم أترى أن يصدق في مثل هذا؟ قال: أرى أن يحلف أصحاب ذلك المتاع أن ذلك المتاع لهم فيأخذونه.
قال محمد بن رشد: اختلف في المفلس يقر بعد التفليس بشيء بعينه من قراض أو وديعة، وما أشبه ذلك لمن لا يتهم عليه فقيل: إن إقراره لا يجوز، وهو قول ابن القاسم في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة، وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، وأحد قولي مالك في أول سماع ابن القاسم وفي سماع أشهب منه، وقال: يقال له: أفسدت أمانتك، ولعلك أن تخص هذا أو تواتيه ليرد عليك، وقيل: إن ذلك جائز يريد مع يمين المقر لهم، وهو أحد قولي مالك في رسم العرية من سماع عيسى منه أيضا، قاله في الصانع يفلس، ولا فرق في هذا بين الصانع وغيره، وفي المسألة قول ثالث: إنهم يصدقون إن كانت على الأصل بينة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه أيضا، وأما إذا سرقت بيوتهم، وأحرقت من غير سببهم، فلا اختلاف أن إقرارهم بالمتاع جائز لأهل المتاع مع أيمانهم؛ لأن أمانتهم لم تفسد، فقوله في هذه الرواية: أرى أن يحلف أصحاب المتاع أن ذلك المتاع لهم ويأخذونه صحيح لا اختلاف فيه، إذا علم أن بيوتهم سرقت، ولا اختلاف في أنه لا يقبل قول المفلس بعد التفليس فيما يقر به من دين في ذمته، وأما قبل أن يفلس ويقام عليه، فيجوز ما أقر به لمن لا يتهم عليه من دين دون يمين ومن قراض أو وديعة أو شيء بعينه أو ما شبه ذلك من دين على أبيه مع يمين المقر لهم، قال ذلك في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة.
وقد كان بعض الشيوخ لا يفرق في اليمين بعد الدين والشيء المعين، فيوجب اليمين في الوجهين، ومنهم من يرى ذلك اختلافا من القول في الوجهين، والصواب الفرق بينهما؛ لأنه إذا أقر بشيء بعينه فقد خص به المقر له دون الغرماء، فوجب أن يحلف، وإذا أقر بدين فلم يخصه دونهم؛ لأنه أسوة معهم فلم يجب عليه يمين، وبالله التوفيق.

.مسألة القصارين يدفع لهم الرجل الخمسمائة ثوب أو أكثر ويشترط عليه قصارتها:

ومن كتاب طلق بن حبيب:
وسئل مالك: عن القصارين من أصحاب الصوف يدفع لهم الرجل الخمسمائة ثوب أو أكثر، ويشترط عليه قصارتها ويدفع إليه أجرة، فيعمد الذي دفع إليه فيستأجر عليه قصارين مثله، فيدفعها إليهم، ثم يفر الأول فيجد هؤلاء ثيابهم وقد عملها هؤلاء، فيريدون أخذها فيقولون لهم: لم نأخذ أجرتنا فلا ندفع إليكم حتى نستوفي حقوقنا، قال: أرى أن يأخذوا ثيابهم إذا وجدوها، ويتبعون هم التي دفعها إليهم بأجرتهم، وكذلك الخياط والفتال يستعمل فيستعمل هو غيره مثل ذلك يأخذون هم ثيابهم إذ كانوا قد دفعوا حقوقهم إلى الأول ويتبع هو العامل الأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة زاد فيها في كتاب ابن المواز تفسيرا فقال: هذا إذا قامت بينة أنه دفع الأجرة إلى الصانع الأول، فإن لم تقم بينة يحلف الثاني أنه ما قبض أجرته من الهارب، ثم يدفع إليه رب الثياب أجرة، وإن كانت إجارة الأول خمسة، وهذا عشرة لم يدفع إليه هو إلا خمسة، ويتبع الهارب بما بقي، ويأخذ هذا ثيابه، وإن كانت إجارة الأول عشرة، وهذا خمسة دفع إلى هذا خمسة وتبقى خمسة عنده للأول، ثم إن قدم الأول، فأقر بقبض إجارته، فليرجع القادم على الثاني بما أخذه منه، قال أبو محمد بن أبي زيد: وهذا الذي قال غير مستقيم، ولا يقبل دعوى غريم القادم على المقيم إذا كان القادم عديما.
قال محمد بن رشد: وقول ابن أبي زيد: لا يقبل دعوى غريم القادم على المقيم إذا كان القادم عديما صحيح، ولم ينص ابن المواز على أنه يرجع على الثاني بإقرار القادم، وإن كان عديما، فينبغي أن يحمل قوله على ما يصح فيقال: معناه إذا كان القادم مليا ولا يقال فيه: إنه غير مستقيم، وقول محمد: إنه إن لم يكن لصاحب المتاع بينة على دفع الأجرة إلى الأول ويحلف الثاني ويأخذ الأقل من الأجرتين صحيح، وكذلك لو أقر صاحب المتاع أنه لم يدفع إلى الثاني إلا ما استأجر به الأول، وهذا إذا علم بما استأجر به أو أقر، وأقر بذلك الثاني، وأما إن لم يثبت ذلك، ولا أقر به الثاني فلا سبيل له إلى أخذ المتاع إلا بعد أن يدفع إليه جميع إجارته إن علمت، وإن لم تعلم، فيخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن القول قوله في مبلغها مع يمينه إذا أتي بما يشبه، فإن أتي بما لم يشبه لم يصدق، وكان له أجر مثله، والثاني: أنه لا يكون له أكثر من أجرة مثله، وإن أشبه ما ادعاه، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم، وإنما وجب أن يكون للثاني أن يأخذ من صاحب المتاع أقل الأجرتين إذا كان لم يدفع إلى الأول أجرته؛ لأنه غريم غريمه بذلك لا من أجل أن السلعة بيده، إذ ليست عنده برهن، فلا يكون له أن يمسكها حتى يقبض إجارته، ولا يكون أحق بها من غرماء صاحب المتاع إن فلس عند ابن القاسم، ولذلك لا يكون القول قوله في الإجارة على مذهبه إن ادعى أكثر من أجرة مثله، وإنما وجب أن يكون لصاحب المتاع أن يأخذ متاعه معمولا دون غرم يكون عليه الثاني إذا كان قد دفع الأجرة إلى الأول؛ لأن العمل قد وجب باستئجار الأول عليه استئجارا مضمونا في ذمته، ولو لم تكن الإجارة مضمونة، وإنما كان استأجره على أن يعمله بنفسه فاستأجر عليه غيره لما وجب لصاحبه أن يأخذه، وإن كان قد دفع الأجرة إلى الأول حتى يغرم للثاني أجرة مثله، وحتى يكون الثاني قد علم بتعدي الأول في استئجاره إياه على ما وجب عليه أن يعمله بيده، هذا الذي يأتي على أصولهم، ولا أعرف في ذلك نصا، والله المعين.

.مسألة رجل استؤجر على عمل يعمله فعمل بعضه ثم مات العامل:

ومن كتاب أوله سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وسئل مالك: عن رجل استؤجر على عمل يعمله فعمل بعضه، ثم مات العامل؟ قال مالك: أما ما كان من عمل يعمله بيده، فإنه بحسب ما قد عمل، ثم يرد ما بقي، وأما ما كان مضمونا من عمل أو قطاعة مثل دار يبنيها أو حفر خليج أو بئر أو صنعة من الصناعة فهو ضامن في ماله، وعلى ورثته عمله فيما ترك، فإن كان فضل كان لهم، وإن كان غرم كان في ماله، وإن لم يترك العامل وفاء حاص المستعمل بقيمة ما بقي له من العمل يوم يحاص، وليس على قدر ما بقي من إجارته، ولكن على ما بقي من قيمة عمله يوم يحاصه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا موضع للقول فيها إلا قوله: إذا مات ولا وفاء له أنه يحاص بقيمة ما بقي من عمله يوم يحاص، فمعناه يوم يحاص على أنه حال كان حالا أو مؤجلا؛ لأنه إن كان مؤجلا فقد حل بموته، وكذلك في التفليس على مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: إن كان مؤجلا في التفليس، فيحاص له بقيمته يوم التحاصص على أن يقبض إلى أجله، والصواب قول ابن القاسم: إنه يحاص بقيمة ذلك حالا كالعين سواء إذ لو كان في ماله وفاء لعجل له حقه، وإذا حوصص له بقيمة ما بقي من عمله في التفليس، فمن حقه ألا يقبض ما صار له في المحاصة، ويستأجر له به في مثل ذلك العمل، واختلف إن أراد أن يأخذ ما صار له في المحاصة هل يجوز ذلك أم لا؟ فقيل: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه يدخله إجارة وسلف؛ لأنه قد اقتضى بعد العمل، فإذا قبض ما صار له في المحاصة دراهم، وقد كان دفع دراهم أخذ بها دراهم وعملا، وقد قيل: إن ذلك جائز؛ لأن التفليس يرفع التهمة، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلم والآجال، ولا اختلاف في أن ذلك جائز في الموت لارتفاع التهمة في الموت يقينا.

.مسألة الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن فيحرق الخبز:

وسئل عن الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن، فيحرق الخبز أترى عليه ضمانا؟ قال: لا أرى عليه ضمانا إلا أن يكون ممن لا يحسن الخبز فغر الناس فأراه ضامنا لذلك، ومثل ذلك الضيعة والتعدي، فأما إذا لم يأت منه تفريط، فلم ير عليه ضمانا، قال ابن القاسم: وعليه ضمان ما سرق.
قال محمد بن رشد: قوله: وسئل عن الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن كلام فيه تقديم وتأخير، وصوابه: وسئل عن الخباز صاحب الفرن يبعث إليه بالخبز، فالفران ضامن لما ادعى تلفه كالصناع كان خبازا يبعث إليه بالعجين ليخبره ويطبخه أو فرانا يبعث إليه بالخبز ليطبخه، وكذلك يضمن ما أفسد بحطبه، وإنما لم يضمن ما احترق من الخبز؛ لأن النار تغلب على ما قال في المدونة، وإنما يسقط عنه الضمان إذا بقي من الخبز ما يعرف به أنه خبز صاحبه، وأما لو ادعى أنه احترق، ولم يأت منه بشيء يعرف أنه الخبز بعينه لضمن، وكذلك الغزل يحترق في الفرن مثله سواء؛ لأن ذلك تضييع من الفران وتعد منه أو عنف في الوقيد، قاله ابن حبيب وغيره، فالضمان ساقط عنه في احتراق الخبز ما لم يتبين التضييع منه والتعدي في العنف في الوقيد، وكذلك ما كان من الأعمال فيه غرر كثقب اللؤلؤ وشبه ذلك لا ضمان عليه فيما أتى على يديه إلا أن يتبين منه في ذلك أنه تعدى فيه وأخذه من غير مأخذه على ما يأتي لأصبغ في نوازله.